تعتبر لغة الهوسا أولى اللغات التواصلية في غرب إفريقيا، حيث يتحدث بها أكثر من ثمانين مليون نسمة، كثير منهم ينتمي عرقياً إلى قبائل أخرى غير هوساوية في الأصل، ولكنها "تهوست" بمرور الزمن وصارت لا تعرف هوية غير "الهوسا". لذلك بدأ الباحثون منذ فترة يتعاملون مع الهوسا باعتبارهم "أمة"، وليست قبيلة بالمعنى الضيق للكلمة، وهم في ذلك أشبه بـ"الأمة العربية".
يقع الموطن الأصلي للهوسا في شمالي نيجيريا وجنوبي جمهورية النيجر الحاليتين، وهي المنطقة التي تعرف في التاريخ بـ"بلاد الهوسا" (Hausa Land ) قبل أن يقوم المستعمر الأوروبي برسم تلك الخطوط الوهمية التي أطلق عليها الحدود السياسية لخدمة مصالحه. وخلال القرون السالفة خرجت مجموعات كبيرة من الهوسا من موطنها الأم بغرض التجارة ونشر الدعوة الإسلامية وأداء فريضة الحج. نتيجة لذلك أصبح للهوسا وجود معتبر كمواطنين في كل من غانا وتوجو والكميرون والغابون وتشاد وإفريقيا الوسطى وليبيا والسودان والمملكة العربية السعودية.
لا أحد يستطيع تحديد تاريخ بداية استقرار أو استيطان الهوسا في السودان، غير أن المؤرخين يؤكدون أن طريق الحج عبر السودان كان سالكاً منذ بداية القرن الثامن عشر، وأن حجاج غرب إفريقيا، إبتداءً من السنغال، كانوا يؤدون فريضة الحج عبر هذا الطريق. ودراسة عملية استقرارهم هذه والتعاطي معها يقتضيان النظر إليها في سياقها التاريخي الذي جرت فيه، وسياقها الروحي الذي تمت فيه. فكثير من أبناء الجيل الحالي يتخيل أن هذه القارة الإفريقية موجودة بتقسيماتها الحدودية الحالية منذ الأزل، وقليل منهم من يعرف أن الحدود السياسية بين الأقطار الإفريقية لا يتعدى عمرها الـ (114) عاماً (مؤتمر برلين عام 1884). فقبل هذا التاريخ كانت كل المساحة الجغرافية الممتدة من السنغال عبر القارة إلى البحر الأحمر تعرف بـ"بلاد السودان"، وتنتظمها ممالك وسلطنات ومشيخات، يعمل كل حاكم على تغذية منطقة نفوذه بمزيد من السكان عن طريق الاستقطاب والتشجيع على الاستقرار، ذلك لأن السكان هم دعامة القوة الاقتصادية والعسكرية، في وقت لم تدخل فيه الآلة في الإنتاج ولم تظهر الآلة العسكرية بعد. لذلك فقد كان انتقال مجموعة بشرية من مكان إلى آخر داخل القارة يتم بصورة سلسة، تخدم مصالح مشتركة لكل من الضيوف والمضيفين. هذا من ناحية السياق التاريخي.
أما في ما يتصل بالسياق الروحي، فإن أهم عوامل استقرار الهوسا في السودان يتمثل في ما يعرف بـ"الحج بمشقة" (Pilgrimage with hardship ) وبعض العوامل الاقتصادية الملازمة له بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فقد رسخ في مفهوم الحاج الهوساوي إلى وقت قريب، عدم جدوى تكبد المشاق وقطع آلاف الأميال إلى الأراضي المقدسة، والتعرض لشتى أنواع المخاطر من حيوانات مفترسة واختطاف للاسترقاق وغير ذلك، ما لم يضمن أداء حج سليم من جميع أوجهه ونيل أكبر قدر من الأجر منه. لذلك عندما يغادر الحاج بلاده كان يترك وراءه كل أمواله التي لم يتأكد من مصدرها من حيث الحلال والحرام، ويبدأ في توفير مال الحج من كسب يده، وذلك بالعمل اليدوي الشاق أثناء الرحلة. لهذا السبب تستغرق رحلة الحج والعودة فترة طويلة تتراوح بين ثلاث إلى سبع سنوات. رغم أن الغالبية العظمى من هؤلاء الحجاج كانوا يوفقون في أداء فريضة الحج والعودة إلى بلادهم، إلا أن البعض منهم قد لا يتمكن من الوصول إلى الأراضي المقدسة. كما أن منهم من يتخلف في طريق العودة، وينتهي بهم الأمر إلى الاستقرار الدائم. وهناك دراسة لباحث غاني (باوا يامبا) عن الهوسا في الجزيرة تفيد بأن من أسباب تعثر الحجاج، عدم تكافؤ الأجر مع العمل. فقد يعمل الحاج لعام كامل وفي نهاية العام "يطلع مطالب"، وأحسب أن زميلي د. عبداللطيف البوني يؤيد هذه المعلومة.
ينتشر الهوسا بأعداد متفاوتة في كل أنحاء السودان بما في ذلك الجنوب، ولهم أحياء كبيرة ومتطورة في كل من الجنينة والفاشر ونيالا والأبيض وربك والخرطوم وود مدني وسنار والحواتة والقضارف وكسلا وبورتسودان. كما استقرت هجراتهم المتأخرة (العقود الأولى من القرن العشرين) على امتداد النيل الأزرق من مايرنو إلى مشارف الكرمك وقيسان، أما استقرار الهوسا في غرب بحر الغزال (واو وراجا)، فقد كانت بغرض الدعوة. وقد أفلحوا في ذلك عن طريق التصاهر مع قبائل غرب بحر الغزال، مما دعا السلطات البريطانية في بداية ثلاثينيات القرن الماضي إلى تهجير عدد منهم من مناطق التماس بين الشمال والجنوب في إطار سياسة ما يعرف بـ"الأرض التي لا صاحب لها" (No Man-s Land)، وذلك لوقف المد الإسلامي إلى الجنوب. فقد انضمت كثير من الأسر المهجرة إلى أهلها بغرب القاش في كسلا.
تُجمع كل الدراسات على الإسهام المقدر للهوسا في تاريخ السودان الاقتصادي الحديث. وهنا قد تبادر إلى ذهن القراء مشروع الجزيرة ومشاريع انتاج القطن في جبال النوبة ومشروع الزيداب مثلاً، غير أن دورهم في هذا المجال لم يبدأ بهذه المشاريع. فقد أورد الصحفي الشهير التيجاني عامر (طيب الله ثراه) في جريدة (الأيام) الصادرة بتاريخ 2/1/1978 في عموده "أوراق مطوية" أن ممتاز باشا حاكم محافظة التاكا (كسلا والبحر الأحمر حالياً) في العهد التركي، عندما فشل في استقطاب البجا للعمل في مشروع القاش لجأ إلى الفلاتة. وكما هو معروف، فإن مصطلح "الفلاتة" قد يشمل أيضاً الهوسا والبرنو والزبرما وغيرهم من المهاجرين من غرب إفريقيا.
يعمل الهوسا بصورة عامة في مجال الزراعة المطرية وفلاحة البساتين على ضفاف الأنهار والخيران، حيث ينتجون قصب السكر والقرع والبطيخ في مناطق سنار وجنوب النيل الأزرق. هذا إلى جانب صيد الأسماك في مناطق كوستي وربك وسنار وجنوب الدمازين، وتصل منتجاتهم منها حتى أسواق العاصمة المثلثة. وإنهم أول من أدخل زراعة الأرز البلدي في منطقة ربك، وأول من فلح البساتين على امتداد نهر الرهد لإنتاج الفاكهة (المانجو على وجه الخصوص) والخضروات. وقد تفضل السيد رئيس الجمهورية بزيارة أحد هذه البساتين (وزرتها أنا أيضاً) وهي من أكبر بساتين المنطقة، يناهز عمرها الثمانين عاماً، يقال إن صاحبها كان لعدة سنوات ينقل الماء من النهر على كتفيه (بما يعرف بـ"الجوز") لري أشجارها. وقد زارها أيضاً عدد من كبار المسئولين باعتبارها نموذجاً لما يمكن أن يتمخض عن الإصرار والعزيمة. غير أن من الهوسا أيضاً الحرفيين من سائقي اللواري والشاحنات والحدادين والخياطين وغيرهم. أما الذين نالوا حظاً في التعليم، فيعملون في دواوين الدولة المختلفة معلمين وأطباء وموظفين وجنود في القوات المسلحة والشرطة وما إلى ذلك. هذا قليل من كثير عن الهوسا بصورة عامة، والهوسا في السودان على وجه الخصوص.
وقد رأينا في هذا المقال الوجيز أن نلقي قليلاً من الضوء على مجموعة الهوسا في السودان وذلك بمناسبة الأحداث التي شهدتها مدينتا القضارف وكسلا في الأيام الماضية، وهي عبارة عن مظاهرات احتجاج على حديث جارح في هذه المجموعة نشر في جريدة (الأيام ) منسوباً للسيد رئيس الجمهورية. وقد تناولت هذا الموضوع من منظور أكاديمي صرف غير مشوب بالسياسة، لأنني لا أفقه شيئاً في السياسة ولا شأن لي فيها. أرجو بداية أن أنوه إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي نسمع فيها مثل هذا الحديث حول شريحة السودانيين الذين تتصل جذورهم بغرب إفريقيا. إنني لا أعرف بلداً على وجه الأرض لم تدخل الهجرات في تشكيل تركيبته السكانية. والأمر الجاري في كل الدنيا، أن تتمازج العناصر المهاجرة مع العناصر المحلية لخلق مجتمع متجانس ومتماسك. وقد سبق أن نوهنا في أكثر من موضوع إلى أن التنوع العرقي والثقافي واللغوي الذي ينعم به السودان يمكن أن يكون مصدر قوته وعظمته إذا تُرك للإنصهار الطبيعي من غير تدخل وتوجيه، مما سيفضي إلى خلق مجتمع متجانس في قيمه العامة وقوي ومتماسك في بنيته. ولكن كيف يتم هذا الإنصهار، ومن ثم التجانس للوصول إلى هذا المجتمع القوي المتماسك المنشود، بينما يسعى بعض العامة والمثقفين إلى تصنيف المواطنين من حيث الأرض التي هاجروا منها؟ هؤلاء من نيجيريا وهؤلاء من البحيرات العظمى، وهؤلاء من مصر، وهؤلاء من المغرب، وهؤلاء من الجزيرة العربية! ما أهمية هذا التصنيف طالما كلهم يحملون الجنسية السودانية وينتمون إلى السودان وجدانياً وقانونياً؟ ويحضرني هنا نداء الرئيس الأمريكي جورج بوش في العام الماضي وهو يدعو المهاجرين الجدد الذين حصلوا على الكرت الأخضر قبل عشرة أعوام فقط، يدعوهم بالاستعجال في الاندماج في المجتمع الأمريكي. وعلى النقيض من ذلك، يسعى بعض العامة والمثقفين في السودان إلى تذكير شرائح معتبرة من المواطنين الذين أندمجوا (أو في حالة اندماج) في النسيج السكاني منذ أكثر من مائة عام، يذكرونهم بأنهم ينتمون إلى بلاد أخرى. والغريب في الأمر أن المهاجرين من غرب إفريقيا الذين عبروا السودان واستقروا في الحجاز في المملكة العربية السعودية لم يسبق قط أن تعرضوا لأمر كهذا، علماً بأن هؤلاء قد استقروا خارج قارتهم الإفريقية وسط أناس لا يشبهونهم لغة ولا عرفاً ولا ثقافة، إنما فقط كانوا يؤمنون حقاً وصدقاً بأن الأرض أرض الله: "... ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" (النساء:97).
كما أسلفت، كنا من قبل كثيراً ما نسمع مثل الحديث الذي نسب للسيد رئيس الجمهورية وأدى إلى أحداث القضارف وكسلا، وكان يحز في أنفسنا ونحس بمرارته. ولكن كون أن مثل هذه الأفكار ما زالت تعشعش في أذهان بعض العامة والمثقفين في الوقت الراهن، فهذا يشير إلى أن هؤلاء العامة والمثقفين لم يسمعوا بالسياسة السكانية الجديدة التي تعمل الدولة على بلورتها. ففي اللقاء التفاكري حول الهوية السودانية الذي نظمه جهاز التخطيط الاستراتيجي بالتعاون مع الإدارة العامة للسجل المدني بدار الشرطة مساء الأربعاء الموافق 7/2/2007 وحضره وزير الداخلية السابق، البروفيسر الزبير بشير طه (وكنت مبتدراً للنقاش فيه)، كان الاجماع فيه أن عدد سكان السودان حالياً لا يتناسب مع ضخامة موارده، حيث يعتبر السودان الدولة الحادية عشرة في العالم من حيث الموارد. لذلك لابد من العمل على زيادة السكان عن طريق فتح باب الهجرة، وكانت التوصية أن يراعى في المهاجرين قدراً من التشابه مع المجتمع السوداني القائم من حيث الدين والقيم والسلوك، حفاظاً على قيمنا وتراثنا، ولم تُحدد جهة معينة يُستقطب منها المهجرون. فإذا كان الأمر كذلك، فيصبح من باب أولى الاحتفاظ بالمواطنين الموجودين أصلاً قبل البحث عن المهاجرين الجدد. أقول هذا الكلام وفي ذهني مقال قرأته في صحيفة (الرأي العام) الصادرة بتاريخ الثلاثاء الموافق 23 سبتمبر 2008 م ، بقلم الاستاذ راشد عبدالرحيم، يتحدث فيه عن ضعف الوجود المصري في السودان مقارنة مع اعداد المواطنين المنحدرين من بعض البلاد الاخرى، ويختم مقاله بالقول: "المصريون اولى من غيرهم"، أي أولى بالاستقرار في السودان. وأقول للأخ راشد إن السودان في الوقت الراهن بإمكانه استيعاب المصري وغير المصري، ومرحب بالمصريين حبابهم عشرة. ولكن الا يكفي أن تطرح حرياتك وترفع سقفها إلى( 14 ) أو أن تجعلها ( 40) إن شئت، ثم تترك بعد ذلك لمجموعاتك المحببة إلى قلبك خيار القبول؟ وفي هذا الصدد يقول المثل الإنجليزي "يمكنك أن تقود الحصان إلى النهر ولكن ليس بإمكانك أن تحمله على شرب الماء". وكذلك يقول الشاعر الجاهلي الأعشى (ميمون قيس):
عُلِّقتها عرضاً وعُلِّقت غيري وعُلِّق أخرى غيرَها الرجلُ
وهل يا أخي راشد إن إقناعك للمواطن بقبول مهاجريك الجدد تقتضي بالضرورة الإشارة الى والمقارنة مع شرائح اخرى من مواطنين مهاجرين قدامى؟ للأسف لم تذكر الأسس الموضوعية التي انبنت عليها أولوليتك هذه.
?
البروفسير الامين ابو منقة
مدير معهد الدراسات الافريقية والآسيوية